ذكرنا في موضوع سابق ان أول من كسى الكعبة هو تبع و اسمه تبان اسعد بن يكرب و كان له ثلاثة أبناء حسان و عمر و ذرعة ذو نواس قتل حسان اخوه عمر خوفا على الملك و كان ذرعة ذونواس صغيرا حين أصيب أخوه حسان ، فشب غلاما جميلا ذا هيئة فبعث اليه لختيعة و ليفعل له ما كان يفعل بغيره و كان لختيعة ظالما ملك اليمن و انزل الشر باهلها .قرر ذو نواس أن يتخلص من لختيعة فاخذ سكينا وضعه بين نعله و قدمه ثم انطلق اليه مع رسوله فلما خلا به ذو نواس في المشربة فقتله بالسكين ثم احتز رأسه، فخرجت حمير و الحرس في أثر ذو نواس حتى ادركوه فملكوه عليهم و اجتمعوا عليه و كان يهوديا .
كان في نجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم على استقامة و كان لهم رئيس يسمى عبد الله بن التامر و كان أصل النصرانية في نجران.
قال وهب بن منبه : أن رجلا كان من أهل نجران يقال له فيميون و كان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة و كان سائحا لا يعرف قرية الا خرج لغيرها و كان لا ياكل الا من كسب يده و كان يعمل الطين و يعظم الأحد و لا يعمل فيه شيئا و يخرج الى الصحراء و يصلي جميع نهاره فنزل قرية من قرى الشام يعمل عمله ذاك مستخفيا ففطن به رجلا اسمه صالح فأعجب به و بأخلاقه فراح يتبعه اينما ذهب و فيميون لا يعلم و جلس منه منظر العين مستخفيا و قام فيميون يصلي ، فبينما هو كذلك اذ أقبل عليه ثعبان ضخم فدعى عليه فمات و رآه صالح فلم يعلم ما حصل له فصرخ بأعلى صوته يا فيميون التنين قد أقبل نحوك فلم يلتفت اليه و أكمل صلاته حتى أمسى و عرف أن صالحا عرفه ، فكلمه صالح و قال له : يعلم الله اني لم احب أحدا حبي لك و قد أردت صحبتك حيثما كنت ، فقال فيميون افعل ، فلزمه و كان اذا ما جاءه عبد به ضر دعى الله له فعفي و اذا دعي لاحد به مرض لم يأته .
استمر الحال على ذلك و انطلق فيميون و صالح حتى وطئا بعض أرض العرب ، فاخذهما العرب و باعوهما بنجران ، و أهل نجران على ديانة العرب يعبدون نخلة عظيمة بين أظهرهم لها عيد كل سنة تعلق عليها الثياب الجميلة و الحلي ، فعلقوا عليها يوما فابتاع رجل من أشرافهم فيميون ، و ابتاع رجل صالحا فكان فيميون اذا قام من الليل يصلي في بيته استسرج له البيت حتى يصبح من غير مصباح فلماٍ رأى سيده ذلك أعجبه، فسأل عن دينه فاخبره ، و عاب دين سيده و قال له : لو دعوت الاهي الذي اعبد لأهلك النخلة ، فقال : أفعل فأنك اذا فعلت دخلنا في دينك و تركنا ما نحن عليه. فصلى فيميون و دعا الله تعالى ، فأرسل الله عليها ريحا فجففتها و ألقتها ، فأتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على شريعة من دين عيسى و دخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض ، فمن هنالك كان اصل النصرانية بنجران.
و قال ابن عباس : كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له : ذو نواس و اسمه يوسف ابن شرحبيل. و كان ذو نواس قيل مولد النبي صلى الله عليه و سلم ب 70 عاما ، و كان له ساحر حاذق ، فلما كبر قال للملك : إني كبرت فابعث إلي غلاما اعلمه السحر فبعث اليه غلاما اسمه عبد الله بن التامر ليعلمه، فجعل يختلف الى الساحر و كان في طريق راهب حسن القراءة فقعد اليه الغلام فاعجبه امره ، فكان اذا جاء الى المعلم يدخل الى الراهب فيقعد عنده فاذا جاء من عنده المعلم ضربه و قال : ما الذي يحبسك ؟ و اذا انقلب الى ابيه دخل الى الراهب فيضربه ابوه و يقول : ما الذي أبطأك ؟ فشكى الغلام ذلك الى الراهب فقال له : اذا اتيت المعلم قل حبسني ابي ، و اذا أتيت أباك قل حبسني المعلم .
و كان في ذلك البلد حية عظيمة قطعت طريق الناس فمر بها الغلام فرماها بحجر و قال : اللهم ان كان أمر الراهب أحب اليك من أمر الساحر فاقتلها فلما رماها قتلها ، و اتى الراهب و أخبره ، فقال له الراهب : ا ن لك لشأنا و انك ستبتلى ، فان ابتليت فلا تدلن عني .
و صار الغلام يبرئ الاكمه و الأبرص و يشفي الناس و كان للملك ابن عم أعمى ، فسمع بالغلام و قتل الحية ، فقال : ادع الله أن يرد علي بصري فقال الغلام : ان رد الله عليك بصرك تؤِمن به ؟ قال : نعم، قال : اللهم ان كان صادقا فأردد عليه بصره فعاد بصره ، ثم دخل على الملك ، فلما رآه تعجب منه و سأله فلم يخبره ، و الح عليه ، فدله على الغلام ، فجيء به ، فقال له : لقد بلغ من سحرك ما أرى فقال : أنا لا اشفي أحدا انما يشفي الله من يشاء.
فلم يزل يعذبه حتى دله على الراهب ، فجئ به فقيل : ارجع عن دينك ، فأبى فأمر به فوضع المنشار على راسه فشق نصفين ، ثم جئ بابن الملك فقال : ارجع عن دينك فأبى فشقه قطعتين.
ثم قال للغلام : ارجع عن دينك فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه و قال : اذهبوا به إلى جبل كذا فأن رجع و إلا فاطرحوه من رأسه .فذهبوا به الى الجبل فقال : اللهم اكفنيهم ، فرجف بهم الجبل و هلكوا ، و رجع الغلام الى الملك ، فسأله عن اصحابه فقال : كفانيهم الله فغاظه ذلك ، و أرسله في سفينة الى البحر ليلقوه فيه ، فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم فغرقوا و نجا و جاء الى الملك فقال : اقتلوه بالسيف فضربوه فنبأ عنه ، و فشا خبره في اليمن ، فأعظمه الناس و علموا أنه على الحق ، فقال الغلام للملك : انك لن تقدر على قتلي الا ان تجمع أهل مملكتك و ترميني بسهم و تقول :بسم الله رب الغلام ، ففعل ذلك فقتله. فقال الناس : آمنا برب الغلام فقيل للملك : قد نزل بك ما تحذر ، فأغلق ابواب المدينة و خد اخدودا و ملأه نارا و عرض الناس ، فمن رجع عن دينه تركه ، و من لم يرجع ألقاه في الاخدود فأحرقه.
و كانت امرأة مؤمنة ، و كان لها ثلاثة بنين أحدهم رضيع ، فقال لها الملك : ارجعي و الا قتلتك انت و اولادك ، فأبت فألقى ابنيها الكبيرين فأبت ، ثم أخذ الصغير ليلقيه فهمت بالرجوع ، قال لها الصغير :يا أماه لا ترجعي عن دينك لا بأس عليك فألقاه ، و ألقاها في أثره و هذا الرضيع أحد من تكلم صغيرا.
قيل حفر رجل خربة بنجران في زمن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فراى عبد الله بن التامر واضعا يده على ضربة في رأسه ، فاذا رفعت عنها يده جرت دما و اذا ارسلت يده ردها و هو قاعد فكتب الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه و ارضاه فأمر بتركه على حاله.
المرجع : كتاب الكامل في التاريخ لابن أثير
0 التعليقات:
إرسال تعليق